حزب "فرنسا الأبية" اليساري يسعى إلى تأمين دعم برلماني لعزل الرئيس ماكرون: دوافع سياسية وأبعاد دستورية

data:post.title


تتصاعد في الآونة الأخيرة التوترات السياسية في فرنسا مع تحرك حزب "فرنسا الأبية" اليساري بقيادة جان لوك ميلونشون، نحو تأمين دعم برلماني لعزل الرئيس إيمانويل ماكرون. هذا التحرك غير المسبوق يعكس حالة الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد، والذي يأتي في سياق أزمات متعددة تشمل السياسات الاقتصادية، العلاقات الخارجية، وإدارة جائحة كورونا. في هذا المقال، سنستقصي الخلفيات والدوافع السياسية وراء هذه المبادرة، إضافة إلى استكشاف الآليات الدستورية الممكنة لتنفيذها، والتداعيات المحتملة على النظام السياسي الفرنسي.

خلفية النزاع السياسي

تعود جذور التوترات بين "فرنسا الأبية" وماكرون إلى فترة الانتخابات الرئاسية لعام 2017، حيث قدم ميلونشون نفسه كمرشح يساري جذري ينافس النموذج الليبرالي الذي يمثله ماكرون. منذ ذلك الحين، تزايدت الخلافات بين الطرفين، لا سيما في القضايا الاقتصادية والاجتماعية. يعارض حزب "فرنسا الأبية" بشدة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي يتبناها ماكرون، والتي يعتبرها الحزب سببًا رئيسيًا في تفاقم الفجوة الاجتماعية وزيادة معدلات الفقر في فرنسا.

مع تصاعد حدة الأزمات الداخلية والخارجية التي تواجهها حكومة ماكرون، وجدت "فرنسا الأبية" فرصة سانحة لتأجيج حالة الغضب الشعبي ضد الرئيس. استغلت الحزب موجات الاحتجاجات المتكررة، مثل "السترات الصفراء"، والمعارضة الواسعة للإصلاحات في نظام التقاعد، لتعزيز موقفها كمعارض قوي للحكومة.

الآليات الدستورية لعزل الرئيس

وفقًا للدستور الفرنسي، يُعدّ عزل الرئيس إجراءً استثنائيًا يتطلب إجراءات دستورية معقدة. ينصّ الدستور الفرنسي في مادته 68 على إمكانية عزل رئيس الجمهورية إذا ارتكب "خيانة عظمى"، وهي عبارة مبهمة إلى حد كبير وتترك مجالًا واسعًا للتفسير السياسي. يتطلب تحريك هذا الإجراء أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان، وهو ما يجعل تحقيقه أمرًا بالغ الصعوبة.

تحاول "فرنسا الأبية" تعبئة دعم أحزاب المعارضة الأخرى في البرلمان، إلا أن هذا الهدف يواجه عقبات كبيرة. فالأحزاب التقليدية، مثل الجمهوريين (اليمين) والحزب الاشتراكي (اليسار المعتدل)، قد لا تكون مستعدة للانضمام إلى هذه المبادرة، إما خوفًا من الفوضى السياسية التي قد تترتب على ذلك أو بسبب الحسابات السياسية الخاصة بهم. كما أن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان، قد لا يكون حليفًا طبيعيًا لـ "فرنسا الأبية" في هذا السياق، رغم معارضته الشديدة لماكرون.

 الدوافع السياسية والاستراتيجية

تحرك "فرنسا الأبية" لعزل ماكرون ليس مجرد خطوة احتجاجية، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز مكانته كزعيم معارض وقائد لليسار الراديكالي في فرنسا. يدرك ميلونشون أن فرص نجاح هذه المبادرة في تحقيق عزل فعلي لماكرون ضئيلة، لكنه يسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف سياسية أخرى.

أولاً، يساعد هذا التحرك في تعبئة القاعدة الجماهيرية للحزب، وإظهار القيادة القوية لميلونشون في وقت تتزايد فيه الانتقادات من داخل الحزب وخارجه. كما يسعى الحزب إلى توجيه الأنظار نحو السياسات الفاشلة، من وجهة نظره، التي ينتهجها ماكرون، وبالتالي إحراج الرئيس أمام الرأي العام الفرنسي والدولي.

ثانيًا، يهدف ميلونشون إلى توحيد المعارضة اليسارية تحت راية واحدة. يشهد اليسار الفرنسي تشتتًا واضحًا بين عدة أحزاب وحركات، وتحاول "فرنسا الأبية" أن تملأ هذا الفراغ القيادي من خلال المبادرات الراديكالية التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة.

ثالثًا، يسعى الحزب إلى وضع أسس لانتخابات 2027 الرئاسية المقبلة. فبالترويج لمبادرات مثل عزل الرئيس، يسعى ميلونشون إلى تعزيز موقعه كمرشح رئيسي، إذا قرر الترشح مرة أخرى، أو كزعيم للمعارضة الذي سيخوض المعركة الانتخابية من موقع قوة.

ردود الفعل والتداعيات المحتملة

قوبلت مبادرة "فرنسا الأبية" بعاصفة من ردود الفعل المتباينة. ففي حين رحب بعض الأطراف اليسارية بهذا التحرك كوسيلة للضغط على الحكومة، فإن الكثير من المحللين السياسيين اعتبروه خطوة غير واقعية قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات داخل البرلمان وتعطيل العمل التشريعي.

من جهة أخرى، أثارت هذه المبادرة مخاوف من تأثيرها السلبي على الاستقرار السياسي في فرنسا. إذا تمكن الحزب من حشد تأييد واسع لهذا التحرك، حتى لو لم يصل إلى مرحلة التصويت على العزل، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف موقف ماكرون وحكومته، وربما إلى تعقيد تنفيذ السياسات الحكومية في الفترة المتبقية من ولايته.

على الصعيد الدولي، قد يؤدي تصاعد الأزمات السياسية الداخلية في فرنسا إلى تراجع مكانتها على الساحة الأوروبية والدولية، خصوصًا في ظل الأزمات المتعددة التي تواجهها القارة الأوروبية، مثل قضية الهجرة، والعلاقات مع روسيا، وأزمات الاقتصاد      العالمية. 

يبدو أن حزب "فرنسا الأبية" بقيادة جان لوك ميلونشون قد اختار طريقًا شائكًا وصعبًا في سعيه لعزل الرئيس إيمانويل ماكرون. رغم أن فرص نجاح هذا التحرك تبقى ضئيلة، إلا أنه يعكس بوضوح حجم الاستقطاب السياسي والاجتماعي في فرنسا. تبقى الأسئلة مفتوحة حول قدرة هذا التحرك على تحقيق أهدافه السياسية والاستراتيجية، وحول تأثيره على مستقبل النظام السياسي الفرنسي. في ظل هذه الظروف، تبقى فرنسا أمام مفترق طرق حاسم قد يعيد تشكيل خارطة القوى السياسية في البلاد لسنوات قادمة

نوت بريس
الكاتب :