منذ استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي في عام 1962، لعب الجيش الجزائري دورًا محوريًا في تحديد مسار البلاد السياسي والاقتصادي. ورغم الوعود المتكررة بتحقيق الديمقراطية والتنمية، فإن العسكر ظل يمسك بزمام السلطة، مما أدى إلى تعثر المسيرة الديمقراطية. فقد شهدت الجزائر موجات متتالية من قمع الحريات، تفاقم الفساد، وسرقة المال العام، ما دفع شرائح كبيرة من الشعب، وخاصة الشباب، إلى اليأس واللجوء إلى الهجرة السرية. وفشل الدولة في تنظيم انتخابات نزيهة تستجيب لتطلعات الشعب كان نقطة تحول في نضال الجزائريين من أجل الحرية والكرامة.
دور الجيش في السياسة الداخلية
السيطرة على مفاصل الدولة
الجيش الجزائري لم يكن يوماً مؤسسة محايدة كما يقتضي في الأنظمة الديمقراطية. منذ بداية التسعينات، ومع اندلاع الحرب الأهلية بعد فوز "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الانتخابات التشريعية عام 1991، لعب الجيش الدور الأكبر في قلب النتائج وإلغاء الانتخابات، ما أدى إلى "العشرية السوداء" التي أودت بحياة مئات الآلاف. واستمر نفوذه في السياسة الداخلية، حيث يسيطر على مفاصل الدولة من خلال شبكات متغلغلة في مؤسسات الحكم والأجهزة الأمنية.
العسكر والرئاسة: تحكم عن بعد
منذ استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 2019 تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية (حراك)، تسلم العسكر مرة أخرى زمام الأمور بشكل غير مباشر عبر تعيين رؤساء محسوبين عليه، آخرهم عبد المجيد تبون. ورغم الوعود بالإصلاح، لم تتغير سياسة الجيش في توجيه السياسة الداخلية. الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت في السنوات الأخيرة لم تكن سوى محاولة لإعادة إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة، بينما تظل سلطة القرار الفعلية في أيدي الجنرالات.
قمع الحريات
القوانين الجائرة
في السنوات الأخيرة، قامت السلطات الجزائرية بتشديد قبضتها على الحريات العامة والخاصة. أُقرّت قوانين قمعية تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة، سواء كانت سياسية أو إعلامية. قانون العقوبات الجديد، الذي تم تعديله في 2020، يتيح للسلطات سجن أي شخص يشتبه في نشر معلومات "كاذبة" أو تهديد "الوحدة الوطنية". كما تم قمع التظاهرات السلمية بشكل مفرط، واعتقال نشطاء الحراك الذين طالبوا بتغيير النظام وإرساء دولة مدنية.
إسكات الصحافة والإعلام
الصحافة الجزائرية، التي كانت تعرف بتنوعها النسبي في التسعينات، تحولت في العقد الأخير إلى أدوات دعائية بيد النظام. الصحفيون الذين يتجرأون على انتقاد الجيش أو الحكومة يتعرضون للتهديد والاعتقال. المؤسسات الإعلامية المستقلة أُغلقت، بينما تواجه المواقع الإخبارية الإلكترونية الحجب المتكرر.
الفساد وسرقة المال العام
منظومة الفساد المتغلغلة
الفساد في الجزائر ليس مجرد ظاهرة عرضية، بل هو نظام متكامل تديره شبكات مصالح مرتبطة بالجيش ورجال الأعمال والسياسيين. العقود الحكومية والمشاريع الضخمة تُمنح لشركات ذات علاقات وثيقة بالسلطة، وغالباً ما تُخصص نسبة من هذه العقود لتمويل جيوب المسؤولين الكبار. التقارير الدولية، مثل تقرير الشفافية الدولية، تضع الجزائر في مراتب متدنية على مستوى الشفافية، ما يعكس فشل الحكومة في مكافحة الفساد.
قضايا الفساد البارزة
من أبرز قضايا الفساد التي تفجرت مؤخراً قضية سوناطراك، شركة النفط والغاز الوطنية، والتي تم خلالها الكشف عن تحويلات ضخمة للأموال إلى حسابات بنكية خارجية لمسؤولين بارزين. ورغم اعتقال بعض الشخصيات المتورطة في هذه القضية، إلا أن التحقيقات بقيت شكلية، ولم يتم استرداد الأموال المنهوبة بشكل فعال.
الهجرة السرية: حلم الشباب المفقود
الأسباب الاقتصادية والاجتماعية
من أبرز نتائج فساد النظام الجزائري وقمع الحريات تزايد الهجرة السرية، حيث يسعى الشباب الجزائري للهرب من واقع البطالة والفقر المستشري. البطالة في الجزائر تُقدر بأكثر من 12%، وتصل إلى أكثر من 30% بين الشباب. الفساد وعدم الاستقرار السياسي دفع الشباب إلى فقدان الثقة في قدرة الحكومة على تحسين الأوضاع، مما جعل الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط خيارًا وحيدًا للكثيرين.
الحراقة: مغامرة الموت
الهجرة السرية، التي تُعرف في الجزائر باسم "الحرقة"، أصبحت ظاهرة مألوفة. في كل عام، يعبر الآلاف من الشباب الجزائريين البحر الأبيض المتوسط في قوارب غير صالحة للإبحار، متجهين نحو أوروبا بحثًا عن فرص أفضل. وتُعد هذه الرحلات محفوفة بالمخاطر، حيث يلقى العديد من المهاجرين حتفهم في عرض البحر. السلطات الجزائرية تتعامل مع الظاهرة بإجراءات قمعية، دون معالجة الأسباب الجذرية مثل الفساد والبطالة.
الفشل في تنظيم انتخابات نزيهة
الانتخابات الأخيرة: مسرحية سياسية
رغم الدعوات الشعبية إلى انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب، فإن الانتخابات الأخيرة، سواء كانت رئاسية أو تشريعية، كانت بمثابة "مسرحية سياسية". عكست هذه الانتخابات غياب الإرادة الحقيقية للإصلاح، حيث تم التحكم في النتائج مسبقًا من قبل الجيش. المشاركة الشعبية كانت ضعيفة للغاية، مما يعكس انعدام الثقة في العملية الانتخابية برمتها. الأحزاب المعارضة تم قمعها، والنظام الانتخابي تم تفصيله ليضمن فوز مرشحي السلطة.
مستقبل الديمقراطية في الجزائر
مع استمرار سيطرة الجيش على الحياة السياسية، يبدو أن مستقبل الديمقراطية في الجزائر لا يزال غامضًا. ورغم أن الشعب الجزائري أثبت قدرته على مقاومة الديكتاتورية من خلال الحراك الشعبي، إلا أن النظام العسكري يُصر على إعادة إنتاج نفسه. المجتمع المدني يواجه تحديات جسيمة، لكنه يبقى الأمل الوحيد في تحقيق تغيير حقيقي.
الجزائر تقف اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن يستمر الجيش في إحكام قبضته على السلطة، مما يؤدي إلى المزيد من القمع والهجرة والفساد، أو أن يستجيب لمطالب الشعب في الحرية والكرامة. ولكن، كما يبدو، فإن النظام العسكري لا يزال مصممًا على الاحتفاظ بامتيازاته، حتى وإن كان ذلك على حساب مستقبل البلاد. في غياب انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب، ستبقى الجزائر محاصرة بين الفساد والهجرة والديكتاتورية، بينما يظل الشباب يغامرون بحياتهم بحثًا عن حياة أفضل بعيدًا عن وطنهم.