تُعَدُّ ظاهرة "الموظفين الأشباح" واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في المغرب، والتي تعكس بشكل واضح أوجه القصور في إدارة الموارد البشرية بالقطاع العام. هذه الظاهرة تعود إلى الواجهة بشكل دوري، مثيرةً تساؤلات عن مدى جدية الحكومة المغربية، وبالأخص وزارة الداخلية ووزارة المالية، في مواجهة هذه الظاهرة التي تكشف عن تسيّب واسع في إدارة المال العام.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات: أرقام مخيفة ومؤشرات واضحة
أحدث تقارير المجلس الجهوي للحسابات بجهة الرباط سلا القنيطرة، الذي صدر مؤخراً، أثار مجدداً جدلاً واسعاً حول ظاهرة "الموظفين الأشباح". التقرير كشف عن وجود موظفين يتقاضون أجوراً رغم عدم قيامهم بأي عمل فعلي، ومنهم من تقاضى رواتب حتى بعد تقاعده أو وفاته. هذه الأرقام الصادمة لا تقتصر على حالات معزولة، بل تمثل جزءاً من نمط واسع الانتشار يُظهر ضعفاً هيكلياً في مراقبة وتدبير الموارد البشرية بالجماعات الترابية.
غياب الإرادة السياسية: هل هو سبب استمرار الظاهرة؟
رغم الجهود التي تبذلها بعض الجماعات المحلية لمكافحة هذه الظاهرة، مثل استخدام أنظمة "البوانتاج" التي تهدف إلى ضمان حضور الموظفين، إلا أن الواقع يكشف عن قصور هذه الحلول في القضاء على المشكلة. وفقاً لرئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، محمد الغلوسي، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب الإرادة السياسية الحقيقية لمكافحة الفساد الإداري. ويتضح هذا الغياب من خلال عدم تفعيل آليات الرقابة والمحاسبة بشكل فعال، مما أدى إلى تفشي ثقافة الإفلات من العقاب.
التطبيع مع الفساد: بين الإفلات من العقاب واستمرار الاستغلال
التقرير الذي أصدره المجلس الجهوي للحسابات لا يمثل مجرد وثيقة إدارية، بل هو شهادة على مدى "التطبيع" الحاصل مع الفساد داخل الإدارات المغربية. حيث أصبح الموظفون الأشباح يتفوقون على آليات الرقابة الداخلية والخارجية، مما يفتح الباب أمام استغلال مستمر للمال العام دون حسيب أو رقيب. هذا الأمر يعزز من الشعور العام بفقدان الثقة في المؤسسات العامة ويؤدي إلى تعميق الهوة بين المواطن والدولة.
المسؤولية الاجتماعية والأزمة القيمية: نظرة أعمق للأزمة
تعد ظاهرة "الموظفين الأشباح" انعكاساً لأزمة قيمية أعمق في المجتمع المغربي. وفقاً للدكتور عبد العزيز قراقي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، فإن هذه الظاهرة تعكس خللاً في مفهوم المواطنة والإحساس بالمسؤولية لدى الموظفين. إذ أن البعض ينظر إلى العمل في القطاع العام كحق مكتسب دون التزامات فعلية تجاه الإنتاجية أو خدمة المواطن. هذه الثقافة المجتمعية تسهم بشكل كبير في استمرار هذه الظاهرة، وتؤكد على الحاجة إلى إصلاحات جوهرية في التربية والتعليم لتعزيز مفهوم المواطنة والإنتاجية منذ الصغر.
دور وزارة الداخلية ووزارة المالية: هل من حلول فعّالة؟
على الرغم من أهمية التقارير التي يصدرها المجلس الأعلى للحسابات في كشف الفساد، إلا أن الدور الفعلي للوزارات المعنية يبقى حاسماً في معالجة هذه الظاهرة. وزارة الداخلية ووزارة المالية، بصفتهما المسؤولتين عن تسيير وتدبير الموارد البشرية والمالية، يتحملان مسؤولية كبيرة في مكافحة هذه الظاهرة. فالتقاعس في اتخاذ إجراءات صارمة ضد الموظفين المتورطين وضد المسؤولين الذين يتغاضون عن هذه الممارسات يفاقم من الأزمة.
بين المطالبة بالمحاسبة والإصلاح الشامل
إن استمرارية ظاهرة "الموظفين الأشباح" في المغرب تستدعي ضرورة مراجعة شاملة للسياسات العمومية المتعلقة بتدبير الموارد البشرية. فالمطالبة بالمحاسبة لا ينبغي أن تقتصر على مستوى الموظفين الصغار، بل يجب أن تطال المسؤولين عن هذه الجماعات الترابية وأولئك الذين يتولون الرقابة على أداء هذه الإدارات. بدون وجود إرادة سياسية حقيقية وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة بشكل صارم، سيظل الفساد الإداري مستشرياً، مما سيؤثر سلباً على ثقة المواطن في مؤسسات الدولة وعلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
