في خضم الأحداث المتسارعة في منطقة القرن الأفريقي، تتزايد التوترات السياسية والعسكرية بين الدول الكبرى في المنطقة. سد النهضة الإثيوبي، الذي بات يمثل نقطة محورية في العلاقات بين مصر وإثيوبيا والسودان، يشكل تحديًا كبيرًا يتجاوز البعد المائي ليشمل أبعادًا سياسية، اقتصادية، وأمنية. في الوقت نفسه، تلعب التحركات العسكرية المصرية في الصومال دورًا جديدًا في إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة. ومع هذه التطورات، يبدو أن الجزائر تجد نفسها في موقف صعب، حيث تترنح بين دورها التقليدي كوسيط إقليمي وبين مخاوف العزل الدبلوماسي.
سد النهضة: تحديات مستمرة وآفاق غامضة
سد النهضة الإثيوبي، الذي يُعد أكبر مشروع تنموي في تاريخ إثيوبيا، أصبح محور الخلافات الإقليمية بين الدول المتشاطئة لنهر النيل. منذ بداية العمل على السد في عام 2011، كان من الواضح أن المشروع سيخلق حالة من التوتر بين إثيوبيا ومصر، التي تعتمد بشكل رئيسي على نهر النيل كمصدر رئيسي للمياه العذبة.
الملء الخامس للسد، الذي بدأ في يوليو 2024 ويُتوقع أن يستمر حتى سبتمبر، يمثل خطوة إثيوبية جديدة نحو تحقيق السيطرة الكاملة على تدفق المياه في النهر. ومع كل ملء جديد، تتصاعد المخاوف في مصر والسودان من التأثيرات السلبية على حصصهما من المياه. إذ يعتبر السد تهديدًا وجوديًا لمصر، التي قد تواجه نقصًا حادًا في المياه يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها.
ومع أن إثيوبيا تعتبر السد أمرًا واقعًا، وتصر على أنه مشروع تنموي حيوي لاقتصادها، فإن غياب اتفاق ملزم بين الدول الثلاث يزيد من احتمالات نشوب صراع مفتوح. ورغم الدعوات الدولية المستمرة للحوار والتفاوض، إلا أن إثيوبيا تواصل التمسك بموقفها، مما يعزز مخاوف مصر والسودان من عواقب وخيمة قد تترتب على استمرار هذه الأزمة دون حل.
التحركات المصرية في الصومال: إعادة ترتيب الأوراق في القرن الأفريقي
على الجانب الآخر من المعادلة، تبرز التحركات المصرية الأخيرة في الصومال كعنصر جديد يُضاف إلى المعادلة المعقدة في القرن الأفريقي. فقد استمرّت طائرات الشحن العسكرية المصرية في تسليم أسلحة ومعدات عسكرية متطورة إلى مقديشو، ما يثير العديد من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء هذه التحركات.
هذه الخطوات قد تكون جزءًا من استراتيجية مصرية أكبر تهدف إلى تعزيز نفوذها في المنطقة كوسيلة للضغط على إثيوبيا في ملف سد النهضة. فمن خلال توسيع علاقاتها العسكرية مع دول مثل الصومال، تسعى مصر إلى إقامة توازنات جديدة تُضعف موقف إثيوبيا في المفاوضات المتعلقة بالسد.
إثيوبيا، من جانبها، ترى في هذه التحركات تهديدًا مباشرًا لاستقرار منطقة القرن الأفريقي. وقد أعربت عن قلقها من تواطؤ إدارة مقديشو مع جهات خارجية، محذرة من أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تقويض الجهود المبذولة لمكافحة الجماعات المسلحة داخل الصومال، مما يُعرّض السلام في المنطقة للخطر.
الجزائر: بين الوساطة والعزلة
في ظل هذا التصعيد، تبرز الجزائر كدولة ذات تاريخ طويل في الوساطة بين الدول الأفريقية، إلا أن دورها في هذه الأزمة يبدو غامضًا ومحدودًا. فالجزائر، التي طالما اعتُبرت قوة إقليمية محورية، تجد نفسها اليوم خارج دائرة التأثير المباشر في هذا النزاع.
قد يعود هذا الموقف إلى عدة عوامل، منها انشغال الجزائر بقضاياها الداخلية أو تحوّل مركز الثقل الإقليمي إلى مناطق أخرى أكثر أهمية استراتيجية في الوقت الحالي. ومع ذلك، فإن تجاهل دور الجزائر في هذه الأزمة قد يكون له تداعيات سلبية على استقرار المنطقة ككل، خاصة وأن الجزائر تمتلك خبرة واسعة في حل النزاعات الأفريقية.
ورغم هذا الوضع، يمكن للجزائر أن تلعب دورًا مهمًا إذا قررت تفعيل دبلوماسيتها بشكل أكبر والتدخل كوسيط بين الأطراف المتنازعة. فقد تكون الجزائر قادرة على تقديم مقترحات لحلول وسطى تحافظ على مصالح جميع الأطراف وتجنب المنطقة المزيد من التصعيد.
يبدو أن منطقة القرن الأفريقي مقبلة على مرحلة جديدة من الصراع والتوتر، حيث تتداخل العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية في مشهد معقد يصعب التنبؤ بتطوراته. سد النهضة والتحركات العسكرية المصرية في الصومال يمثلان نقطتي اشتعال محتملتين قد تؤديان إلى تداعيات إقليمية ودولية واسعة النطاق.
في ظل هذه الظروف، تظل الحاجة إلى حلول دبلوماسية عاجلة وفعالة ضرورة لا غنى عنها. ومع أن الأدوار الإقليمية تتغير وتتطور، فإن التعاون والتفاوض يظلان السبيل الوحيد لتجنب كارثة محتملة في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم.
