في خطوة أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط الحقوقية والسياسية بالمغرب، صادقت الحكومة المغربية مؤخراً على مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد. وبينما تسوِّق الحكومة لهذا القانون كإصلاح شامل يهدف إلى تعزيز النظام القضائي ومحاربة الجريمة، تصاعدت الانتقادات من جهات عديدة، بما في ذلك فيدرالية اليسار الديمقراطي، التي اعتبرت أن القانون الجديد يمثل تهديدًا حقيقياً لمكتسبات المجتمع المدني في محاربة الفساد وحماية الحقوق والحريات العامة.
فيدرالية اليسار الديمقراطي: صوت معارض قوي
أعربت فيدرالية اليسار الديمقراطي، وهي تحالف سياسي يجمع عدة أحزاب يسارية مغربية، عن موقفها الرافض بشكل قاطع لمشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد. وفي بيان رسمي، وجهت الفيدرالية انتقادات لاذعة للحكومة، متهمة إياها بالسعي إلى حماية الفاسدين من خلال هذا القانون، الذي وصفته بأنه "إجراء احترازي" يهدف إلى تقليص دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد وتقييد الحريات العامة.
البدالي صافي الدين، عضو المكتب السياسي للفيدرالية، صرّح بأن القانون يمثل "انقلاباً على الشرعية الدستورية"، مؤكداً أنه يتعارض مع روح دستور 2011 الذي يعترف بدور المجتمع المدني في تعزيز الشفافية والمحاسبة. وحذّر من أن هذا القانون يأتي في وقت تزداد فيه الضغوط الشعبية لمحاسبة المتورطين في قضايا الفساد ونهب المال العام، مما يعزز الشكوك حول نوايا الحكومة ويثير مخاوف من العودة إلى عهد الإفلات من العقاب.
الجدل الدستوري: هل يحد القانون من حقوق المجتمع المدني؟
يعد دستور 2011 محطة تاريخية في مسار الإصلاحات الدستورية بالمغرب، حيث منح المجتمع المدني دوراً محوريًا في مراقبة الشأن العام والمساهمة في تعزيز الشفافية والمحاسبة. لكن مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، وفقاً لنقادها، يتعارض مع هذه المكتسبات ويقيد من إمكانيات المجتمع المدني في تقديم الشكاوى ضد المتورطين في الفساد.
يعتبر القانون الجديد أن تقديم الشكاوى يجب أن يتم عبر قنوات محددة وبإشراف النيابة العامة، وهو ما اعتبرته الفعاليات الحقوقية تقييداً لقدرة جمعيات المجتمع المدني على التحرك بحرية وفعالية. وترى فيدرالية اليسار الديمقراطي أن هذا التوجه يهدد بإعادة هيكلة دور المجتمع المدني وتقليصه إلى دور ثانوي، مما يعكس رغبة الحكومة في السيطرة على قنوات المحاسبة ويثير تساؤلات حول التزامها بالشفافية.
قانون المسطرة الجنائية في سياق دولي: التزامات المغرب أمام المجتمع الدولي
من بين الانتقادات الموجهة إلى مشروع القانون الجديد هو تعارضه المحتمل مع التزامات المغرب الدولية في مجال مكافحة الفساد. فقد صادق المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تتطلب من الدول الأعضاء اتخاذ تدابير فعالة لضمان مشاركة المجتمع المدني في جهود مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.
لكن فيدرالية اليسار الديمقراطي ترى أن القانون الجديد يتناقض مع هذه الالتزامات، مما قد يعرض المغرب لانتقادات دولية ويضر بسمعته كدولة تسعى إلى تحسين موقعها في مؤشرات الشفافية العالمية. وتذهب الفيدرالية إلى أن القانون الجديد قد يكون جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى حماية السياسيين المتورطين في الفساد من المحاسبة، خاصةً في ظل تزايد تورط البرلمانيين والمستشارين في قضايا فساد كبرى.
مخاوف من تأثير القانون على مصداقية الدولة
يشير المنتقدون إلى أن تمرير هذا القانون قد يؤدي إلى زعزعة الثقة بين المواطنين والدولة، في وقت تتزايد فيه المطالب الشعبية بإصلاحات حقيقية لتعزيز الشفافية والمحاسبة. وترى فيدرالية اليسار الديمقراطي أن الحكومة، بدلاً من الاستجابة لهذه المطالب، تسعى من خلال هذا القانون إلى تكريس واقع الإفلات من العقاب وحماية أعضائها من الملاحقة القضائية.
وأكد البدالي صافي الدين أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تقويض مصداقية الدولة وتعريضها لمزيد من الاحتقان الاجتماعي، مشيراً إلى أن الشعب المغربي أصبح أكثر وعيًا بأهمية المحاسبة والشفافية في إدارة الشأن العام. وأضاف أن استمرار الحكومة في تجاهل هذه المطالب قد يقود إلى تصاعد الحراك الاجتماعي وزيادة الفجوة بين المواطنين والنخب الحاكمة.
ردود فعل أخرى: تكتل معارض واسع
لم يقتصر الانتقاد على فيدرالية اليسار الديمقراطي فحسب، بل انضمت العديد من المنظمات الحقوقية والجمعيات المدنية إلى صفوف المعارضة، معتبرة أن القانون الجديد يشكل تهديدًا مباشرًا لمكتسبات حركة حقوق الإنسان في المغرب. ودعت هذه الجهات إلى ضرورة مراجعة القانون وضمان توافقه مع المعايير الدستورية والدولية.
كما عبّرت بعض الأطراف السياسية الأخرى، بما في ذلك أحزاب معارضة، عن قلقها من تأثير القانون على الحريات العامة واستقلالية القضاء، محذرة من أن تمريره دون تعديلات جوهرية قد يؤدي إلى أزمة دستورية ويضع المغرب على مسار غير مستدام من التراجع في حقوق الإنسان.
يمثل مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد نقطة تحول في النقاش حول دور المجتمع المدني في محاربة الفساد وضمان الشفافية في المغرب. وبينما تؤكد الحكومة على ضرورة تحديث التشريعات لمواكبة التحديات الجديدة، يرى المنتقدون أن القانون يهدد بتقويض مكتسبات الدستور ويعزز مناخ الإفلات من العقاب.
في ظل هذا السياق المشحون، يبقى السؤال المطروح: هل سيتمكن المجتمع المدني والقوى السياسية المعارضة من الضغط على الحكومة لتعديل القانون وضمان توافقه مع الدستور والمعايير الدولية؟ أم أن مشروع القانون سيمر كما هو، مما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على مسار الإصلاحات في المغرب؟
جدل حول تعديلات قانون المسطرة الجنائية في المغرب: حقوقيون يقدمون شكاية للملك محمد السادس ضد وزير العدل عبد اللطيف وهبي
يشهد المغرب حاليًا جدلًا واسعًا بسبب تعديلات مثيرة للجدل أدخلها وزير العدل عبد اللطيف وهبي على مشروع قانون المسطرة الجنائية. هذه التعديلات، التي تمت الموافقة عليها من قبل الحكومة خلال اجتماعها الأسبوعي الأخير، تشمل ما يقارب 420 تعديلًا على القانون الذي مضى على إصداره أكثر من عقدين، وتعد أبرزها المادة الثالثة التي تمنع جمعيات حماية المال العام من تقديم شكاوى قضائية ضد رؤساء الجماعات وموظفي الدولة.
وقد أثارت هذه التعديلات قلقًا كبيرًا بين الأوساط الحقوقية التي اعتبرتها محاولة لتقويض دور المجتمع المدني في محاربة الفساد وتعزيز الحوكمة الجيدة، وهو ما دفع مجموعة من الحقوقيين إلى التقدم بشكوى إلى الملك محمد السادس، يعبرون فيها عن مخاوفهم من أن تؤدي هذه التعديلات إلى تكريس الفساد وإضعاف الرقابة على المسؤولين العموميين.
وفي نص الشكوى المرفوعة إلى الملك، قال الحقوقيون:
نص الشكوى:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
مولاي أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين،
باعتبارنا مواطنين مغاربة محبين لوطنهم وحريصين على القيم الدينية والوطنية التي تميز بلدنا الحبيب، نتقدم إلى جلالتكم بهذه الشكاية، والتي نعبر من خلالها عن قلقنا العميق من التصرفات والمواقف الصادرة عن وزير العدل السيد عبد اللطيف وهبي، والتي نعتبرها خرقًا صارخًا للقيم الدينية المغربية وضربًا لمبادئ إمارة المؤمنين التي تعد إحدى الركائز الأساسية في توحيد الأمة وحماية الدين الإسلامي في بلدنا.
مولاي، إن المواقف التي اتخذها السيد عبد اللطيف وهبي، سواء عبر تصريحاته أو قراراته، تتناقض بشكل واضح مع قيم ديننا الحنيف ومع التقاليد المغربية الراسخة التي حافظ عليها أجدادنا عبر العصور. وإزاء هذه الانحرافات، نعتبر أن استمرار السيد وهبي في منصبه يشكل خطرًا على استقرار القيم الدينية والوطنية، ويهدد تماسك المجتمع المغربي.
إذا، فإننا نلتمس من جلالتكم، بصفتكم الساهرة على حماية القيم الدينية والوطنية، أن تتفضلوا بإعفاء السيد عبد اللطيف وهبي من مهامه كوزير للعدل، وإحالة قضيته إلى القضاء من أجل محاسبته على كل ما بدر منه من تجاوزات.
نرجو من جلالتكم أن تتقبلوا هذا الطلب بعين الاعتبار والرعاية، حفظكم الله ورعاكم وأبقاكم ذخرًا وملاذًا لشعبكم الوفي.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
التعديلات المثيرة للجدل
وتعد المادة الثالثة من مشروع القانون الجديد أكثر التعديلات إثارة للجدل، حيث تنص على أنه لا يمكن إجراء الأبحاث أو إقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم المتعلقة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو تقارير من المفتشية العامة للمالية أو الإدارة الترابية أو الوزارات المعنية. هذا النص اعتبرته جمعيات حماية المال العام تطبيقًا لتهديدات سابقة أطلقها وهبي بحرمان المجتمع المدني من مقاضاة المسؤولين المتورطين في الفساد، وحصر هذا الحق في الجهات الرسمية فقط.
ردود الأفعال الحكومية
من جانبه، وصف مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة، مشروع قانون المسطرة الجنائية بأنه يعكس إرادة المملكة القوية في تعزيز حقوق الإنسان وتكريس دولة القانون. إلا أن هذه التصريحات لم تنجح في تهدئة المخاوف المنتشرة بين النشطاء الحقوقيين والمدافعين عن دور المجتمع المدني، الذين يرون في هذه التعديلات تهديدًا مباشرًا للمكتسبات التي حققتها البلاد في مجال حقوق الإنسان والحكامة الجيدة.
مخاوف من إضعاف الرقابة
تعبر المنظمات الحقوقية عن خشيتها من أن تؤدي هذه التعديلات إلى إضعاف الرقابة على المسؤولين العموميين، مما قد يؤدي إلى تكريس الفساد وتقويض الجهود المبذولة لمحاربته. وفي هذا السياق، يرى العديد من الحقوقيين أن هذه التعديلات تمثل تراجعًا عن المقتضيات الدستورية والقانونية التي تمنح المجتمع المدني دورًا رئيسيًا في مراقبة أداء المؤسسات العمومية والمساهمة في تخليق الحياة العامة.
تأتي هذه التطورات في وقت حساس تمر به البلاد، حيث تتطلب التحولات السياسية والاقتصادية تعزيز الثقة في المؤسسات وتحقيق الشفافية. ومع استمرار النقاش حول مشروع قانون المسطرة الجنائية، يبقى السؤال حول مدى قدرة الحكومة على تحقيق توازن بين تعزيز سيادة القانون وضمان مشاركة فعالة للمجتمع المدني في مراقبة ومحاربة الفساد.
