تشهد منطقة الساحل الإفريقي تصاعدًا لافتًا في التوترات السياسية والعسكرية، حيث باتت الحدود الجزائرية المالية بؤرة جديدة للنزاع بعد سلسلة غارات شنتها الطائرات بدون طيار التابعة للجيش المالي، استهدفت محيط بلدة تين زاوتين الحدودية منذ 25 أغسطس/آب المنصرم. وتعد هذه الغارات جزءًا من المواجهات الدائرة بين القوات المالية مدعومة من مرتزقة مجموعة فاغنر وبين متمردي الطوارق، غير أن آثارها تجاوزت الحدود، لتشعل أزمة جديدة بين الجزائر ومالي، الجارتين المتوترتين بفعل تعقيدات الصراع الداخلي في مالي والمصالح الإقليمية المتشابكة.
الصراع في شمال مالي: خلفية النزاع المسلح
تتسع رقعة النزاع في مالي، حيث تواصل الحكومة المالية بقيادة الرئيس الانتقالي عاصمي غويتا سعيها لبسط السيطرة على المناطق الشمالية، لا سيما تلك التي يسيطر عليها متمردو الطوارق، الذين ينضوون تحت لواء الإطار الإستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد. ويعد اتفاق الجزائر الموقع عام 2015 بين الحكومة المالية والمتمردين، والذي تم بوساطة جزائرية، أساسًا لعملية السلام في المنطقة. غير أن انهيار هذا الاتفاق مؤخرًا وتفاقم الصراع بعد استيلاء القوات المالية على مدينة كيدال، أعاد خلط الأوراق وأثار مخاوف الجزائر التي تعتبر استقرار المناطق الحدودية مسألة أمن قومي.
الطائرات بدون طيار: سلاح باماكو الجديد وتداعياته
أدخلت مالي الطائرات بدون طيار كسلاح جديد في معركتها ضد متمردي الطوارق، وذلك بعد حصولها على 6 طائرات مسيّرة من تركيا، استخدمتها في شن غارات متتابعة على المناطق الحدودية مع الجزائر. تزعم باماكو أن هذه الهجمات تستهدف "إرهابيين" وتصف العمليات بأنها "دفاع عن السيادة الوطنية"، في حين تؤكد مصادر محلية وإنسانية أن أغلب الضحايا من المدنيين، بمن فيهم أطفال. الجزائر، بدورها، دعمت هذا الرواية، مشيرة إلى أن العديد من المصابين تم نقلهم للعلاج على أراضيها، مما أثار استنكار الحكومة المالية.
موقف الجزائر: الأمن القومي والعلاقات المتوترة مع باماكو
ردّ الفعل الجزائري جاء سريعًا وحازمًا. فالأمن في المناطق الصحراوية الحدودية لطالما كان من أولويات السياسة الدفاعية الجزائرية. وقد شهدت هذه الحدود تعزيزات عسكرية، تشمل حفر خنادق حول البلدات الحدودية، وإقامة قواعد جوية ووحدات لمراقبة حركة المهاجرين والمهربين، فضلاً عن القوات الأمنية التي تقوم بدوريات منتظمة. الجزائر تعتبر وجود شركات عسكرية خاصة مثل فاغنر في المنطقة تهديدًا مباشرًا لاستقرارها، وهو ما دفع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى التحذير من تزايد نفوذ هذه المجموعات في الساحل.
كما أن التوترات تصاعدت في المحافل الدولية، إذ دعا الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة إلى "وضع حد للانتهاكات التي ترتكبها الجيوش الخاصة" وفرض عقوبات أممية على الهجمات التي تستهدف المدنيين. هذا الموقف أثار غضب مالي، التي اعتبرت الاتهامات الجزائرية "دعاية إرهابية"، وزادت من تأزيم العلاقة الدبلوماسية بين البلدين.
فاغنر في الساحل: أداة النفوذ الروسي وتحديات الجزائر
يعتبر وجود مرتزقة مجموعة فاغنر في مالي جزءًا من استراتيجية أوسع للنفوذ الروسي في إفريقيا. فالمجموعة، التي تم دمجها مؤخرًا في كيان يسمى "فيلق أفريقيا"، تلعب دورًا محوريًا في دعم المجلس العسكري المالي بقيادة غويتا. وتعتبر الجزائر أن هذا الوجود الروسي يهدد استقرار المنطقة ككل، خاصة أن فاغنر تقدم الدعم أيضًا للجنرال الليبي خليفة حفتر، الذي تراه الجزائر خصمًا إقليميًا يشكل تهديدًا لأمنها القومي.
ورغم أن الجزائر لم تعلن رسميًا عن أي إجراءات عسكرية رداً على غارات الدرونز، إلا أن الشائعات حول رغبتها في فرض حظر جوي على المنطقة زادت من حدة التوترات. وبالنظر إلى الطبيعة الحساسة للوضع، يبقى احتمال التصعيد العسكري واردًا، خاصة مع تصاعد الخطاب العدائي بين الجانبين.
اتفاق الجزائر: تعفن السلام وعودة الحرب
أحد أبرز مسببات الخلاف الحالي هو فشل تنفيذ اتفاق الجزائر للسلام، الذي وقع بين الحكومة المالية والمتمردين الطوارق عام 2015. الجزائر، التي قادت الوساطة في هذا الاتفاق، تشعر بالإحباط من انهيار الاتفاقية واستئناف الاشتباكات المسلحة. فرغم جهودها الدبلوماسية لإعادة إحياء عملية السلام، فشلت في إقناع الأطراف المتنازعة بالعودة إلى طاولة المفاوضات. وفشل الجزائر في ضمان استمرارية الاتفاقية ألحق ضررًا بعلاقاتها مع مالي، التي باتت تعتبر موقف الجزائر داعمًا للطوارق.
ويبدو أن دفن اتفاق الجزائر بشكل نهائي في يناير الماضي كان نقطة تحول في العلاقات الجزائرية المالية، حيث أطلقت الحكومة المالية حملة عسكرية واسعة لاستعادة مناطق الشمال. هذه التحركات عززت انعدام الثقة بين البلدين، وأدت إلى توترات جديدة تمثلت في استدعاء السفراء بين الجزائر وباماكو.
مستقبل العلاقات الجزائرية المالية
يبدو أن الوضع في منطقة الساحل الإفريقي مرشح للتفاقم في ظل تعقد المشهد الأمني والدبلوماسي بين الجزائر ومالي. فالخلافات العميقة حول قضية الطوارق وتواجد فاغنر، بالإضافة إلى النزاع حول غارات الطائرات بدون طيار، تضع البلدين على مسار تصادمي قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد. ورغم المساعي الجزائرية للعب دور الوسيط الإقليمي، إلا أن تدهور العلاقات مع باماكو يطرح تساؤلات حول قدرة الجزائر على ضمان استقرار المناطق الحدودية، ويعكس تحديات أكبر تواجه المنطقة ككل، حيث تتداخل فيها الصراعات المحلية مع المصالح الدولية والإقليمية المتضاربة.
