لطالما كانت تونس، بعد ثورة 2011، مثالاً يحتذى به في الانتقال السلمي نحو الديمقراطية في العالم العربي. إلا أن هذه الصورة بدأت تتلاشى تدريجيًا تحت حكم الرئيس قيس سعيد، الذي تولى السلطة في عام 2019. ومنذ ذلك الحين، تبنى سعيد نهجًا سلطويًا يثير الكثير من المخاوف حول مستقبل البلاد. أحدث فصول هذا النهج كان منع توزيع العدد الأخير من مجلة “جون أفريك” في تونس بسبب تحقيق صحفي تناول حكمه.
منع "جون أفريك": رقابة أم حماية لصورته؟
في 4 سبتمبر 2024، أعلنت مجلة "جون أفريك" عبر موقعها الإلكتروني أن السلطات التونسية منعتها من توزيع عددها في الأسواق المحلية. تضمن العدد تحقيقًا استقصائيًا مطولًا بعنوان "الرئيس المهيمن"، استعرض فترة حكم الرئيس قيس سعيد وأسلوب إدارته للدولة. ووصفت المجلة هذا القرار بالعودة إلى أساليب الرقابة التي كانت تفرض في عهد زين العابدين بن علي، قبل الثورة التي أطاحت بنظامه في 2011.
هذا الإجراء أثار تساؤلات حول مدى احترام حرية التعبير في تونس تحت حكم سعيد. فبعد مرور 14 عامًا على الثورة التونسية، كان من المتوقع أن تعزز البلاد مناخ الحرية والديمقراطية. ومع ذلك، فإن منع تحقيقات صحفية تُظهر عيوب السلطة يعكس انحدارًا واضحًا في الحريات الإعلامية.
رئيس خارج عن المؤسسات: سعيد والسلطة المطلقة
منذ صعوده إلى السلطة، أظهر قيس سعيد توجهًا متزايدًا نحو المركزية والاستفراد بالقرار. في 25 يوليو 2021، أعلن سعيد تعليق البرلمان وإقالة الحكومة، في خطوة وصفها الكثيرون بالانقلاب على الدستور. ومنذ ذلك الحين، اتخذ سلسلة من القرارات التي عززت قبضته على مفاصل الدولة، بما في ذلك تعديل الدستور وإصدار قوانين جديدة تحد من استقلالية القضاء والإعلام.
يصف العديد من المراقبين سعيد بأنه رئيس "خارج عن المؤسسات"، حيث يعتمد على الأوامر التنفيذية بدلًا من الحوار مع الفاعلين السياسيين أو المجتمع المدني. وقد أدى ذلك إلى إضعاف المؤسسات الديمقراطية الناشئة في تونس، مثل البرلمان والقضاء.
انتخابات محسومة مسبقًا؟
يستعد التونسيون لإجراء الانتخابات الرئاسية في 6 أكتوبر 2024. غير أن هناك شكوكًا كبيرة حول مدى نزاهة هذه الانتخابات. في تحقيقها، أشارت "جون أفريك" إلى أن نتيجة الانتخابات "أمر مفروغ منه"، في إشارة إلى غياب المنافسة الحقيقية.
الهيئة العليا للانتخابات رفضت مؤخرًا تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، التي طالبت بإعادة النظر في ترشيح ثلاثة من أصل ستة مرشحين تم استبعادهم. أحد هؤلاء المرشحين لا يزال معتقلًا في السجن، وهو ما يشير إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون مجرد عملية شكلية لتأكيد بقاء سعيد في السلطة.
هذا الوضع يطرح تساؤلات حول مدى استعداد النظام السياسي في تونس لضمان انتخابات شفافة ونزيهة، ويعزز المخاوف من أن قيس سعيد يحاول تقليد الأنظمة الاستبدادية التي تبقى في السلطة لعقود عبر التلاعب بالمؤسسات الانتخابية.
من قمع الحريات إلى تراجع الاقتصاد
إلى جانب تكميم الأفواه وفرض القيود على الإعلام، تواجه تونس أزمات اقتصادية خانقة. معدلات البطالة والتضخم في ارتفاع مستمر، والاستثمارات الأجنبية والمحلية تراجعت بشكل ملحوظ. يعتمد سعيد على خطاب "مكافحة الفساد" لجذب بعض الدعم الشعبي، لكنه لم يقدم أي خطط واضحة لمعالجة المشاكل الاقتصادية البنيوية التي تعاني منها البلاد.
في الوقت الذي كانت تونس تأمل في أن تصبح نموذجًا للتحول الديمقراطي، يبدو أن البلاد عادت إلى دائرة القمع والاستبداد. من خلال إقصاء المعارضة، وتقييد الإعلام، والسيطرة على المؤسسات القضائية، يسير سعيد بتونس نحو مستقبل مظلم، حيث تراجعت الآمال في الإصلاح والديمقراطية.
ما هو القادم لتونس؟
في ظل هذه الظروف، يبدو أن قيس سعيد يواصل تعزيز قبضته على السلطة، دون أي مقاومة فعلية من المجتمع الدولي أو القوى الإقليمية. وبدلاً من دعم مسار الانتقال الديمقراطي الذي بدأ في 2011، ينظر إلى تونس الآن كدولة عائدة إلى الاستبداد.
يبقى السؤال المطروح: هل يمكن للتونسيين أن يستعيدوا زمام الأمور، ويعيدوا إحياء شعلة الثورة التي أضاءت شمال أفريقيا والشرق الأوسط منذ أكثر من عقد؟ أم أن البلاد ستبقى رهينة حكم فردي يزداد قوةً يومًا بعد يوم؟
التحديات المقبلة قد تكون الأكبر في تاريخ تونس الحديث، والوقت وحده سيكشف كيف ستتغير معالم هذا المستقبل الغامض.
قمع الحريات وتكميم الأفواه: تونس تحت حكم قيس سعيد في ظل انتخابات محسومة مسبقًا
