لطالما اعتُبر المغرب نموذجًا للاستقرار في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تمتعت البلاد بنظام سياسي ملكي مستمر لقرون. غير أن العقدين الأخيرين شهدا تزايدًا في الأصوات المعارضة التي تنتقد المنظومة السياسية وتتهمها بالفساد، القمع، وتكميم الأفواه. يتجلى ذلك من خلال سلسلة من المتابعات القضائية والملاحقات التي تستهدف النشطاء، الصحفيين، والمناضلين الذين يطالبون بمحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
الفساد السياسي: جذور المشكلة
يُعتبر الفساد مشكلة متجذرة في المنظومة السياسية والاقتصادية المغربية. على الرغم من وجود العديد من القوانين والمؤسسات الرامية إلى مكافحة الفساد، يظل هذا الوباء يشل قطاعات حيوية من الدولة، بما في ذلك الإدارة العامة، القضاء، وحتى بعض المؤسسات الأمنية.
يرى العديد من المحللين أن الفساد في المغرب ليس مجرد ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية، بل هو جزء لا يتجزأ من المنظومة السياسية التي تعتمد على شبكات معقدة من المصالح المشتركة بين الأفراد النافذين داخل النظام. هذه الشبكات غالبًا ما تشمل رجال أعمال كبار، مسؤولين حكوميين، وأحيانًا شخصيات من الطبقة السياسية التي تملك نفوذًا على المؤسسات القضائية والتشريعية.
أشكال الفساد في المغرب:
يتخذ الفساد في المغرب أشكالًا متعددة، منها:
1. الرشوة والمحسوبية: تعتبر الرشوة من أبرز مظاهر الفساد التي يعاني منها المواطنون يوميًا، سواء في الإدارات العمومية أو في الإجراءات القضائية. المحسوبية بدورها تتيح الفرص لعدد قليل من الأفراد المقربين من السلطة للاستفادة من العقود العامة والمشاريع الكبرى.
2. اختلاس المال العام: العديد من المشاريع الحكومية الكبرى، مثل مشاريع البنية التحتية أو الصحة والتعليم، غالبًا ما تكون متورطة في فضائح مالية حيث يتم تحويل أموال الدولة لمصالح شخصية.
3. التهرب الضريبي: يتمتع العديد من الشركات الكبرى والشخصيات النافذة بامتيازات ضريبية غير قانونية، مما يؤثر على الاقتصاد الوطني ويعزز الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
القمع وتكميم الأفواه:
مع تصاعد الوعي الشعبي تجاه الفساد والمطالبة بالإصلاحات، لجأت السلطات المغربية إلى استخدام القضاء كأداة لتكميم الأصوات المعارضة. يُلاحظ في السنوات الأخيرة تزايد عدد الملاحقات القضائية التي تستهدف صحفيين مستقلين، نشطاء حقوقيين، وسياسيين من المعارضة. هذه المتابعات القضائية غالبًا ما تكون مبنية على اتهامات واهية مثل "إهانة المؤسسات الدستورية" أو "المساس بالأمن العام".
حالة الصحفيين والنشطاء:
العديد من الصحفيين المستقلين الذين سلطوا الضوء على قضايا الفساد وجدوا أنفسهم خلف القضبان، أو تعرضوا للتشويه الإعلامي. بعض الأمثلة البارزة تشمل الصحفيين الذين كشفوا عن تورط مسؤولين حكوميين في فضائح مالية، أو انتقدوا سياسات الدولة في التعامل مع ملفات مثل حقوق الإنسان أو التنمية الاقتصادية.
النشطاء الحقوقيون بدورهم لم يسلموا من المتابعات القضائية. في الكثير من الحالات، تم اعتقالهم بسبب تنظيمهم لاحتجاجات سلمية أو بسبب تعبيرهم عن آرائهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تُعتبر هذه الإجراءات محاولة واضحة من النظام السياسي لإسكات أي صوت يطالب بالتغيير.
العدالة الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية:
شهد المغرب موجات من الاحتجاجات الشعبية التي تركزت على مطالب العدالة الاجتماعية وتحسين الظروف المعيشية. حركة 20 فبراير التي انطلقت في 2011 تزامنًا مع الربيع العربي كانت أبرز مثال على هذه الاحتجاجات، حيث طالب المتظاهرون بمحاربة الفساد، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وإصلاح النظام السياسي.
غير أن استجابة الدولة لهذه الاحتجاجات كانت محدودة ومؤقتة. على الرغم من بعض الإصلاحات الدستورية التي تم إجراؤها في 2011، بقيت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية تتسع، وتزايدت مستويات الفقر والبطالة.
إفلات الفاسدين من العقاب:
أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الفساد في المغرب هو غياب المحاسبة الحقيقية للفاسدين. رغم وجود هيئات مثل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، إلا أن هذه المؤسسات تظل عاجزة عن محاسبة المسؤولين الكبار بسبب التدخلات السياسية.
في العديد من الحالات، يتم تقديم صغار الموظفين ككبش فداء للتغطية على الفضائح الكبرى. بينما يبقى المتورطون الحقيقيون في ملفات الفساد بعيدين عن أي مساءلة قانونية. هذا الأمر أدى إلى تزايد فقدان الثقة لدى المواطنين في المؤسسات القضائية والسياسية.
التأثير على المجتمع المغربي:
إن استمرار الفساد السياسي في المغرب يؤثر سلبًا على جميع جوانب الحياة اليومية للمواطنين. من التعليم والصحة إلى الإسكان والشغل، يظل المواطن المغربي العادي يعاني من تردي الخدمات وضعف الفرص. ويؤدي انعدام العدالة الاجتماعية وتكريس الفساد إلى تزايد الإحباط لدى الشباب الذين يجدون أنفسهم محرومين من فرص التقدم والمشاركة في التنمية.
السبل الممكنة للإصلاح:
رغم التحديات الكبيرة التي تواجه المجتمع المغربي في مكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أن هناك بعض السبل التي يمكن أن تسهم في تحسين الوضع:
1. تقوية المؤسسات الرقابية: يجب تعزيز دور المؤسسات الرقابية مثل الهيئة الوطنية للنزاهة ومنحها صلاحيات واسعة لمحاسبة المسؤولين دون تدخلات سياسية.
2. إصلاح القضاء: القضاء المستقل هو الأساس لضمان العدالة ومحاربة الفساد. يتطلب الأمر إصلاحًا شاملاً للجهاز القضائي لضمان أنه قادر على محاسبة الجميع، بغض النظر عن مكانتهم.
3. تشجيع الصحافة الحرة: الصحافة هي السلطة الرابعة في أي نظام ديمقراطي. يجب حماية الصحفيين المستقلين ومنحهم الحرية الكاملة للتحقيق في قضايا الفساد دون خوف من الملاحقات القضائية.
4. تمكين المجتمع المدني: يعتبر المجتمع المدني القوة الدافعة وراء التغيير والإصلاح. يجب دعم الجمعيات الحقوقية والمجتمع المدني ليكونوا شركاء فاعلين في مكافحة الفساد.
المنظومة السياسية المغربية تعيش أزمة حقيقية تتجلى في استفحال الفساد وتكميم الأفواه. رغم التحديات الكبيرة، يبقى الأمل في التغيير قائمًا، لكن ذلك لن يحدث إلا من خلال إرادة سياسية حقيقية ومشاركة فاعلة من المجتمع المدني. إذا استمرت هذه الوضعية، فإن الفجوة بين النظام والشعب ستتسع، ما قد يؤدي إلى تداعيات اجتماعية وسياسية غير محمودة.
